عندما جاء الصحفى الصهيونى الأمريكى توماس فريدمان إلى القاهرة منذ بضعة شهور قابلوه كما ينبغى أن يُقابل الأنبياء!.. وأقول الأنبياء لأنه لا شيخ الأزهر ولا آيات الله ولا البابا يقابلون بمثل كل الحفاوة والاحتفال المختلط بوجد من يتلقى مددا من الملأ الأسفل لا الأعلى!!.. وجد أشبه بالوجد الصوفى إلا أنه ينتمى للشيطان. أجمعت صحفنا القومية عليه إجماع عبدة البقر على بقرة، وإجماع الوثنيين على وثن. عقدوا له عشرات الاجتماعات والندوات بدت فيها ملامحهم مبهورة وأشداقهم مفتوحة إذ يتلقون منه الحكمة. ووقفت صحيفة الشعب الأسيرة وحدها تحذر من اليهودى المتعصب السطحى، وقفت تفند مقولاته وتكشف للقوم كم يمتهنهم الرجل ويزدريهم، لكن القوم نظروا إلى الشعب كما ينظر الوثنى إلى من صبأ بالأوثان، وكما ينظر العلمانى إلى المسلم والمؤمن، وكما ينظر التنويريون إلى المحترمين!!..
ومرت شهور وإذا بالصحف التى رفعت فريدمان إلى مصاف القديسين ترحمه كما ينبغى للشياطين!! فهو مأجور و أحمق وجاهل وشرير و.. و.. و..
انقلب القوم عليه انقلاب وثنيين على وثن لا لكى يؤمنوا بالله الواحد الأحد بل ليستبدلوه بوثن آخر.. لذلك لم يذكر أحد أن صحيفة الشعب كانت فى هذه المسألة - كما كانت فى كل المسائل - زرقاء اليمامة.
كان السبب فى الانقلاب على فريدمان رسالة وقحة كتبها على لسان الرئيس كلينتون ووجهها للرئيس مبارك، وكان مما فيها ( كما نشرت صحيفة أخبار اليوم والعربى المصريتين) : " إنك تشبه من يمشى على الحبل أو يتزحلق على حيز ضئيل من الثلج" و: " مالذى جنيناه من العلاقة مع مصر والتى كلفتنا 30 مليار دولار من المساعدات منذ عام 1987 " ثم يتهمه " بتحريض الفلسطينيين على عدم قبول حل وسط بشأن القدس" ثم يعنف ساخرا الصحافة المصرية والقبض على سعد الدين إبراهيم كما ينتقد عدم قيام الرئيس مبارك بزيارة إسرائيل، ويسخر من نجاحه فى الاستفتاء الأخير بنسبة 94%، و نحن لا نحكم على مصر إلا بمعيار واحد وهو نواياك تجاه إسرائيل وموقفك غير المعادى تجاهها وهو ما جعلنا نلتمس لك الأعذار وغضضنا نظرنا عن فساد نظامكم وغياب الديموقراطية عنه". و " إذا كنت بهذا القدر من الخوف من الأصوليين الذين تبنى عليهم كل مواقفك ففيم يمكن الاعتماد عليك إذن؟قل لى شيئا يا حسنى: متى كانت آخر مرة قمت فيها بأداء شئ ذى قيمة من أجلنا ومن أجل عملية السلام؟ ومتى خاطرت بأى شئ؟. و " لقد ظللت إلى فترة طويلة تعيش على ماضى وتركة الرئيس السادات ولقد حان الوقت لكى تتحرك من جديد ذلك أن أبو الهول واحد فى مصر يكفى يا حسنى!!..
الرسالة وقحة ما فى ذلك شك.. وهى تجرح كرامة كل عربى بلا ريب..
لكنها أيضا صفعة لكل من هللوا للرجل قبل ذلك كانت تستوجب لو كان هناك معايير تنحية كل عبدة الأوثان المستغربين عن مناصبهم وتوجيه التحية والاعتذار إلى صحيفة الشعب.
لكن ذلك- فى بلد العجائب - لم يحدث..
الذى حدث أن نفس الجوقة التى سجدت تبتلا وخشوعا هى التى انبرت تقذف الأحجار على غير هدى، فأصابتنا الأحجار ولم يصل منها إلى فريدمان شئ.. أصابتنا نحن المصابين أصلا.. بل - ويا لفرط حماقة الدببة - أصابت الرئيس مبارك أيضا.
كان توماس فريدمان يتهم الرئيس مبارك بعدم الولاء أو التبعية لأمريكا وعدم عمله لصالحها ويعاتبه أو يعنفه على ذلك، وبدلا من أن يلجأ صحفيونا البواسل إلى تأكيد عدم التبعية وأن الرئيس مبارك يعمل لصالح مصر وليس لصالح أمريكا إذا بهم يفعلون آخر ما يتوقع منهم، إنهم يجادلون فى مدى فائدة الرئيس مبارك لأمريكا: فلولا موقفه من الاجتياح العراقى للكويت ما تمكنت القوات الأمريكية من الوصول للخليج!! وفى عهده خدمت مصر على مصالح أمريكا الحيوية وحافظت على إمدادات النفط العربى الرخيص للولايات المتحدة، كما أن مبارك هو الذى أقنع عرفات بحضور كامب ديفيد!! كما أن الميزان التجارى بين مصر وأمريكا يميل لصالح الأخيرة بمقدار 45 مليار دولار… و .. و .. و .. ولكن هذا يكفى!!..
عندما قرأت ذلك صرخت:
- يا إلهى.. إن معظم اتهامات فريدمان ( وأتمنى أن تكون صحيحة) أوسمة فخار.. أما دفاع صحفيينا ( وأتمنى أن يكون باطلا) فإكليل عار..!!